القبر : إما روضة من رياض الجنة, أو حفرة من حفر النار , وإما دار كرامة وسعادة, أو دار إهانة وشقاوة .
وهو محكمة السؤال والمناقشة, والاختبار والمراجعة والتوفيق والتثبيت, والأهوال.
هو ذلك المكان الذي يضم بين ذراعية الجثث التي لا حركة فيها ولا روح ولا نبض.
وهو موطن الحكماء والسفهاء, والعظماء والفقراء, والأغنياء والفقراء, والصالحين السعداء والصالحين الأشقياء.
وهو الحفرة الضيقة التي لا صديق فيها ولا ونيس ولا قريب ولا جليس ولا ينفع العبد فيها سوى عمله الصالح فهو المنقذ له من أهواله وأحواله .
قال عمر بنُ عبد العزيز – رحمه الله – لبعض جلسائه يومًا:
“يا فلانُ، لقد بِتُّ الليلةَ أتفكَّرُ في القبر وساكنه، إنك لو رأيتَ الميت بعد ثلاث في القبر، لاستوحشت من قُربه بعد طول الأُنس منك ناحيته، ولرأيت بيتًا تجول فيه الهوامُّ، ويجري فيه الصديد، وتخترقه الديدان، مع تغيُّر الرائحة، وبلى الأكفان، بعد حسن الهيئة، وطيب الرِّيح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة خرَّ مغشيًّا عليه”؛ (رواه ابن أبي الدنيا).
ماذا يحدث في أول ليلة في القبر ؟
1: كلام القبر لأبن أدم
أول ما يوضع العبد في قبره وينصرف عنه أهله وأصدقائه وأقاربه وكل من كان ونيس له في الدنيا ويتركوه منفردا في هذا المكان الضيق لا حول له ولا قوة ذلك المكان المخيف الموحش المليء بالظلمة ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها , سكوت قاتل وجو موحش, ويسمع قرع نعالقه وهم منصرفين عنه لا يملكون سوى أن يدعوا له بالتثبيت عن السؤال والرحمة والمغفرة وأن يكون قبره روضه من رياض الجنة, وفي هذه الظلمة المخيفة والسكوت القاتل والجو الموحش يجد العبد من يتحدث معه ويكلمه, فإذا كان عمل العبد في الدنيا صالح يرحب به القبر ويقول له : (مرحبا وأهلا) وإذا كان العبد عاصي لله في الدنيا ينفر منه القبر ويقول له ( لا مرحبا ولا أهلا ) .
فقد أخرج الترمذي – بسند فيه مقال – عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال:
“دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُصلاَّه، فرأى ناسًا كأنهم يَكْتَشِرون، قال: ((أما إنكم لو أكثرتم ذِكر هادم اللذَّات لشغلكم عما أرى، فأكثروا من ذكر هادم اللذات – الموت – فإنه لم يأتِ على القَبر يوم إلا تكلم فيه، يقول: أنا بيتُ الغُربة، أنا بيت الوَحدة، أنا بيت التُّراب، أنا بيتُ الدود، فإذا دُفِن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبًا وأهلاً، أما إن كنت لأحبَّ من يمشي على ظهري إلي، فإذا وُلِّيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك، قال: فيتسعُ له مدَّ بصرِه، ويفتح له باب إلى الجَنَّة ) .
أما إذا دفن العبد الفاجر الكافر العاصي لله في دنياه المنكر لوجوده المشرك به, يقول له القبر ( لا مرحبا ولا أهلا, أما إن كنتَ لأبغض من يمشي على ظهري إلي، فإذا وُلِّيتُك اليوم وصِرتَ إلي، فسترى صنيعي بك، قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي عليه وتختلف أضلاعه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصابعه فأدخل بعضها في جوف بعض، قال: ويُقيِّض اللهُ له سبعين تنِّينًا، لو أن واحدًا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئًا ما بقيت الدنيا، فينهشَنْه ويخدِشْنَه حتى يُفضى به إلى الحساب, ))، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما القبر روضة من رياض الجَنَّة، أو حفرة من حفر النار)) .
فياله من مشهد عظيم على العبد وموقف مخيف عندما يجد القبر يتحدث إليه وهو معتاد في دنياه على التحدث مع بشر مثله وكان يمر على المقابر ولم يتخيل للحظة أنه سوف يأتي اليوم الذي يتحدث فيه القبر إليه .
فقد جاء عند أبي نُعيم في “حليته” عن عبيد بن عمير قال: “يُجعل للقبر لسان ينطق به، فيقول: يا ابن آدم، كيف نسيتني؟! أما علمت أني بيت الأكلة، وبيت الدود، وبيت الوحشة”.
أخرج ابن المبارك بسند صحيح في “زوائد الزهد” لنعيم عن أسيد بن عبد الرحمن – رحمه الله – قال:
(( بلغني أن المؤمن إذا مات وحُمِلَ، قال: أسرعوا بي، فإذا وُضِعَ في لحده كلَّمته الأرض فقالت له: إن كنتُ لأحبُّك وأنت على ظهري، فأنت الآن أحب إلي، فإذا مات الكافر وحُمِلَ قال: ارجعوا بي، فإذا وُضِعَ في لَحده كلَّمته الأرضُ فقالت: إن كنتُ لأبغضك وأنت على ظهري، فأنت الآن أبغض إليَّ )) .