دفع الازدهار المتزايد للتجارة الدولية وخاصة التجارة الالكترونية أصحاب هذه التجارة إلى التحرر من سلطان قانون الدولة الذي نعينه قواعد الإسناد في القانون الداخلي وخاصة التجارة الالكترونية, وإخذاء تلك العلاقات لقواعد أخرى تختلف عن قواعد القوانين الداخلية وخاصة التجارة الالكترونية, مما ولد الشعور بالحاجة إلى قضاء متفهم لحقيقة العلاقات التجارية الدولية ملم بالقواعد والأعراف الحاكمة لها وذلك ما لا يتوافر في القضاء الداخلي المشبع بروح القانون الوطني, ونظرا لغياب الدولة العالمية التي كان من الممكن أن تنشئ جهازاَ يتولى الفصل في المنازعات الناشئة عن المعاملات التجارية الدولية, وفقا للقانون الموضوعي الذي تخضع له هذه المعاملات فكان الالتجاء إلى التحكيم هو الحل واحتل التحكيم أهمية خاصة منذ العصور الوسطى في مبادلات التجارة الدولية وذلك بسبب رغبة التجار الدوليين أن ينشئوا بأيديهم قانونا خاصا يتفق مع طبيعة عقودهم الخاصة بالتجارة الدولية سمي بقانون التجارة “Lex-electronica” ويختارون قضاة هذه التجارة من أقرانهم التجار- بديلا عن الالتجاء إلى القضاء النظامي – لحسم منازعاتهم.
وفضلا عن دور التحكيم في حسم منازعات التجارة الدولية وخاصة التجارة الالكترونية يلعب التحكيم دورا مهما في تكوين وصياغة مجموعة من المبادئ والقواعد التي تشكل نظاما وقواعد قانونية عالمية ودولية , ينظم ويحكم مسائل التجارة الدولية.
يكشف التجاء المشتغلين بالتجارة الدولية إلى التحكيم عن الرغبة الصريحة للأطراف في الإفلات من النظام القانوني الداخلي لأية دولة ما, بما قد يمثله من صرامة وعدم ملائمة أحكامه لمسائل التجارة الدولية وخاصة التجارة الالكترونية, ويكشف أيضا عن رغبتهم في تسوية منازعاتهم, وفقا لأصول مهنية أو لقواعد عرفية أو لمبادئ معينة, أو لما يرونه ملائما لطبيعة معاملاتهم وبذلك تسهم أحكام المحكمين في إظهار ونشأة القواعد الملائمة لتنظيم المسائل المتعلقة بالتجارة الدولية وخاصة التجارة الالكترونية.
ولا يمكن القول بأن التحكيم على الصعيد التجاري الدولي يعتبر عملا من طبيعة إرادية خالصة, ذلك لأن كثيرا ما يفرض التحكيم جبرا على أطراف التجارة الدولية وخير برهان على ذلك ما تفرضه شروط العقود النموذجية للجنة الاقتصادية الأوروبية والتي تحتوى الغالبية منها على شرط التحكيم.
وتعتبر قرارات التحكيم وما تقوم به من تطبيق لعادات وأعراف التجارة الدولية وخاصة التجارة الالكترونية, بمثابة مصدر رئيس أمام المحكمين, كما تقوم أيضاَ بصياغة بعض المفاهيم القانونية التي نشأت أساساَ في ظل القوانين الوطنين لتتسق وأوضاع التجارة على الصعيد الدولي, فهذه القرارات بهذه المثابة أصبحت تلعب دورا أساسيا كمصدر من مصادر القواعد القانونية التي تحكم منازعات التجارة الدولية فهي تؤثر في مسار التحكيم اعتباره قضاءَ أصيلاَ للتجارة الدولية.
وتفسير أهمية التحكيم باضطراد العمل به في عقود التجارة الدولية
وهو ما عبر عنه بعض الشرائح بالقول بأن عقود التجارة الدولية كلها يندر ألا تحتوي على شرط يفيد طرح ما يثور بشأنها من منازعات على التحكيم, والنادر الذي لا يحتوي على شرط التحكيم…. وبهذا يصدق القول بأن التحكيم قد أضحى هو الطريق المعتاد للنظر في المنازعات التجارية الدولية
وتجسدت المقولة الأخيرة بصورة واضحة في نصوص اتفاقيات الجات المبرمة في إطار اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية الموقعة بين مراكش بالمملكة المغربية بتاريخ 15 إبريل 1994م, ويظهر ذلك مما نصت عليه المواد من 6 إلى 19 من الملحق الثاني الخاص بالتفاهم حول القواعد والإجراءات التي تحكم تسوية المنازعات بين الدول الأعضاء, حيث أضافت هذه المواد ” التحكيم” كوسيلة لحل منازعات التجارة الدولية إلى جانب الوسائل الأخرى التي عنيت بها المنظمة لحل هذه المنازعات كالمساعي الحميدة, والتوفيق, والوساطة, ونصت المواد المذكورة على إنشاء “فرق التحكيم” وبينت اختصاصاتها, وطرق تكوينها, والإجراءات المتبعة أمامها, واعتماد أحكامها واستئنافها وتنفيذها, ومن هذا يتضح أن هذه المنظمة اتجهت إلى نبذ التقاضي أمام المحاكم القضائية متى نشأ النزاع عن اتفاقيات التجارة الدولية التي وافقت عليها الدول الأطراف في المنظمة, وهو نفس الاتجاه الذي سبقت إلية لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي والذي جسدته بالقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لعام 1975م.