حظيت أولية الشعر الجاهلي باهتمام خاص في النقد العربي منذ القدم, ومازالت تحتل موقعها الذي تبوأته منذ القرن الثاني للهجرة لما اعتادها من غموض أوقع الكثير من الدارسين والمنشغلين بتاريخ الأدب العربي في حيرة ولبس, وما ذاك إلا لغياب الإثباتات المادية والقرائن العلمية, التي يستند إليها, ويطمئن إلى صحتها, فمما لا شك فيه أن الشعر الجاهلي قديم, موغل في القدم, فهو ضارب في جذور التاريخ, قد مر بأطوار وأزمان طويلة, كانت لعهد بداية وطفولة, ثم نما وترعرع حتى استوى قصيدا متينا على يد امرئ القيس وأقرانه من فحول الشعراء الجاهليين.
و لا بد من أن يكون للشعر تاريخ طويل قطع فيه أشواطا من الصناعة والدربة والمران, حتى استقام واكتمل على هذا الشكل, الموزون المقفى.
ومن المعلوم أن جزءا ضئيلا من الشعر, الجاهلي, قد وصل إلينا, أما معظمه فقد ضاع, واندثر, يقول أبو العلاء عمرو بن العلاء: ” ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله,ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم كثير.”
ولعل أسباب الضياع تعود إلى:
طبيعة البيئة الصحراوية: وما تفرضه على الحياة العربية من عدم الاستقرار… فهم في حل وترحال دائم, ينتقلون وراء مساقط الماء, ومنابت الكلأ.
لا يعتمدون على الكتابة, في حفظ تراثهم الأدبي: لقلة من يجيدونه أو يتقنونه, ومن ثم كان اعتمادهم بشكل كبير على الحفظ والرواية, وهما يتصلان بالطبيعة الإنسانية التي تتأثر بالنسيان والموت.
وليس من المستطاع تحديد حقبة زمنية معينة لبدء المحاولات الشعرية, ولكن ما بأيدي الرواة من الشعر العربي الجاهلي, يرقى عهده إلى مائتين على الأكثر… وهو التحديد الزمني الذي قرره الجاحظ.
فالنمو الطبيعي للقصيدة الجاهلية بأوزانها وموضوعاتها ومضامينها يستدعي ان تكون هذه القصيدة قد مرت بأطوار كثيرة, قبل أن يكتب لها الاكتمال الشامل,لأننا لو رجعنا إلى القصائد الطويلة, لوجدنا أنها تأخذ نمطا معينا في التعبير والأداء, وكأن الشعراء كانوا يحرصون على أسلوب متوارث فيها, وهو ما يدفع إلى الاعتقاد بأن القصيدة الجاهلية قد مرت بمراحل معينة, كانت تقتدي فيها أنماطا تقليدية سائدة.
ولعل في الشعر الجاهلي نفسه ما يؤكد تلك المحاولات السابقة, ممثلة بما ذكره بعض الشعراء كامرئ القيس, وعنترة وزهير, هؤلاء الذين أقروا بوجود شعراء قد سبقوهم إلى قول الشعر, يقول امرؤ القيس:
عوجى على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن حدام
ومن النقاد الذين تناولوا هذه القضية كذلك, ابن سلام الجمحي الذي يقول:” ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا ال\أبيات يقولها الرجل في حاجته, وكان أول من قصد القصائد وذكر الوقائع, المهلهل بن ربيعة الثغلبي, في أخيه كليب وائل, وكان اسم المهلهل عديا,وإنما سمي مهلهلا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب واضطرابه, واختلافه, أو لأنه هلهل الشعر بمعنى سلسل بناءه”.
يقول المهلهل:
أليلتنا بذي حسم أثير إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فضلا عن أنه قد أشار إلى بعض الشعراء القدامى, الذين رويت لهم مقطعات شعرية, أو أبيات مفردة, أمثال: دويد بن نهد القضاعي, وأعصر بن سعد بن قيس غيلان…
لكن تبقى البداية الحقيقية للشعر الجاهلي, مشوبا بالضبابية والاضطراب, والأحكام غير المؤسسة على معايير علمية يمكن الاطمئنان إليها لتنزيل الغموض الذي اكتنف المحاولات الأولى في قول الشعر.