من أهم وأكثر الشخصيات التاريخية العلمية المؤثرة، فإن تم تعداد المفكرين والعلماء والأدباء ودرجة تأثيرهم على مدى العصور، يذكر أبن خلدون، وإن تم الحديث عن الإبداع والتجديد يذكر أبن خلدون، وإن تم ذكر رصانة الفكر وسلاسة التحليل ودقة التوصيف والاستنتاج يشار لأبن خلدون .
فقد صنفت مؤلفات أبن خلدون بأنها من أهم ما أنتجته البشرية، وما كتبه هذا المفكر الكبير يعد لبنة أساسية لعدد من العلوم كالتاريخ والفلسفة والسياسة والاجتماع، وهو من القلائل الذين دارت حول أفكارهم العديد من النقاشات والمناظرات الفكرية والمؤلفات ووجهات النظر، وقد أُجمع على ذلك في الشرق والغرب . فمن هو أبن خلدون ؟
نشأة وحياة أبن خلدون :
هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد ” خلدون ” الخضرمي، ولد أبن خلدون في تونس عام 1332م، من أسرة عربية الأصل، نشأ إبن خلدون في بيت علم ومجد عريق، وحفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من طفولته، وكان أبوه معلمه الأول، كما درس على يد مشاهير علماء عصره .
شغل أجداده في الأندلس وتونس مناصب سياسية ودينية مهمة وكانوا أهل جاه ونفوذ، نزح أهله من الأندلس في منتصف القرن السابع الهجري، وتوجهوا إلى تونس خلال حكم دولة الحفصيين، يتعقب أصول أبن خلدون إلى حضر موت، ويذكر أنه من سلالة الصحابي وائل بن حجر .
وقد أتجه أبن خالدون إلى الوظائف العامة بعد موت عامة أساتذته في الطاعون الذي أصاب عامة بلادهم، وألتحق بوظيفة كتابية في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لترضي طموحه، وعينه السلطان ” أبو عنان” ملك المغرب الأقصى، عضواً في مجلسه العلمي بفاس، فأتيحت له الفرصة أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء، الذين نزحوا إليها من تونس والأندلس وبلاد المغرب .
رحل أبن خلدون إلى غرناطة تاركاً أسرته بفاس، ثم عاد وهران بالجزائر، ليستقر في قلعة أبن سلامة هو وأهله أربع سنوات، ومن هنا بدأت مسيرته مع كتابه ( العبر في ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عصرهم من ذوي السلطان الأكبر )، لتكون مقدمة هذا الكتاب أول وأشهر مقدمة صنفت في علم الاجتماع ، وشئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد عالج فيها ما يُطلق عليه الآن ( المظاهر الاجتماعية ) .
فلسفة أبن خلدون :
كان لخبرة أبن خلدون في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة في شمالي إفريقية وغربيها إلى مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية وعلمية كتاباته عن التاريخ
وملاحظاته .
فيرى أبن خلدون في المقدمة أن الفلسفة من العلوم التي استحدثت مع انتشار العمران، وأنها كثيرة في المدن، وكانت لأبن خلدون فلسفته الخاصة والتي بني عليها بعد ذلك أفكاره ونظرياته في علم الاجتماع والتاريخ، حيث عمل على التجديد في طريقة عرضهم، فقد كان رواة التاريخ من قبل أبن خلدون يقومون بخلط الخرافات بالأحداث، هذا بالإضافة إلى تفسيرهم التاريخ استنادا إلى التنجيم والوثنيات، فجاء أبن خلدون ليحدد التاريخ بأنه ” في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها ” .
وسعى أبن خلدون من أجل الإطلاع والمعرفة فكان مطلعاً على أراء العلماء السابقين، فعمل على تحليل الآراء المختلفة ودراستها، ونظراً لرحلاته في العديد من البلدان وعمله بها وإطلاعه على كتبها، وعلى الرغم من اعتراض أبن خلدون على كثير من أراء العلماء السابقين إلا أنه كان أميناً سواء لعرضه لهذه الآراء والمقولات أو نقده لها .
كما أستعرض أبن خلدون تاريخ الحركة الفكرية لدى المسلمون وسعى إلى الكشف عن العلاقة بين العلوم والآداب من جهة والتطوير الاجتماعي من جهة أخرى، وأوضح أن التربية ظاهرة اجتماعية وأن التعليم يتطور مع تطور العمران .
وفاته :
توفي أبن خلدون في مصر عام 1406م، ودفن في مقابر الصوفية عند باب النصر شمال القاهرة، إلا أنه لا يعرف مكان قبره بالتحديد .
ويبقى أبن خلدون اليوم شاهدا على عظمة الفكر الإسلامي المتميز بالدقة والجدية العلمية والقدرة على التجديد لإثراء الفكر الإنساني .